Tuesday, August 18, 2009

هنا .....وهناك



نسافر حتّى نبتعد عن المكان الذي أنجبنا ونرى الجهة الأخرى من الشّروق. نسافر بحثاً عن طفولاتنا، عن ولاداتٍ لم تحدث. نسافر لتكتمل الأبجديّات النّاقصة. ليكون الوداع مليئاً بالوعود. لنبتعد كالشّفق يرافقنا ويودّعنا. نمزّق المصائر ونبعثر صفحاتها في الرّيح قبل أن نجد -أو لا نجد- سيرتنا في كتبٍ أخرى.

نسافر نحو المصائر غير المكتوبة. نسافر لنقول للّذين التقيناهم إنّنا سنعود فنلتقي بهم. نسافر لنتعلّم لغة الأشجار التي لا تسافر. لنلمّع رنين الأجراس في الأودية المقدّسة. لنبحث عن قلوب أكثر رحمة. لننزع عن وجوه الغرباء أقنعة الغربة. لنسرّ للعابرين بأنّنا مثلهم عابرون وبأنّ إقامتنا مؤقتة في الذّاكرة والنّسيان. بعيداً عن الأمهات اللواتي يشعلن شمعة الغياب، ويرقّقن قشرة الوقت كلّما ارتفعت أيديهنّ إلى السّماء.

نسافر حتّى لا نرى أهلنا يشيخون، ولا نقرأ أيّامهم على وجوههم. نسافر في غفلةٍ من الأعمار المبدّدة سلفاً. (نسافر لنبلّغ الذين نحبّهم أنّنا لا نزال نحبّ، وأنّ البعد لا يقوى على دهشتنا)، وأنّ المنافي لذيذة وطازجة كالأوطان. نسافر حتّى إذا ما عدنا إلى أوطاننا أحسسنا أنّنا مهاجرون في كلّ مكان. هكذا بغتةً، ننفض عن أجنحتنا الشّرفات المشرّعة على الشّمس والبحر. نسافر حتّى لا يعود ثمّة فرقٌ بين هواء وهواء، بين ماء وماء، بين سماء وجحيم. نهزأ من الوقت. نجلس وننظر إلى المدى. نرى الأمواج تتقافز كالأطفال. يمضي البحر أمامنا بين سفينتين، واحدة ترحل وأخرى من ورق في يد طفل.

نسافر كما ينتقل المهرّج من قرية إلى قرية، ومعه حيواناته تلقّن الأطفال أمثولتهم الأولى في السّأم. نسافر لنخدع الموت، فنتركه يتعقّبنا من مكانٍ إلى آخر. ونظلّ نسافر إلى أن لا نجد أنفسنا في الأمكنة التي نسافر إليها. لنضيع فلا يعثر علينا أحد.

___

عين السراب:عيسى مخلوف

______

الصورة

شاطىء سلوى بالكويت ..واحد من أماكن كثيرة هنا وجدتها تتسع لشخصين إلى الأبد

Thursday, August 6, 2009

فى الحسين

قد قال لى يوماً أبى:

إن جئت ياولدى المدينة كالغريب

وغدوت تلعق من ثراها البؤس

فى الليل الكئيب ...

قد تشتهى فيها الصديق او الحبيب

إن صرت ياولدى غريباً فى الزحام

أو صارت الدنيا امتهاناً فى امتهان

أو جئت تطلب عزة الإنسان فى دنيا الهوان

إن ضاقت الدنيا عليك

فخذ همومك فى يديك

واذهب إلى قبر الحسين

وهناك "صلى" ركعتين

***

كانت حياتى مثل كل العاشقين

والعمر أشواق يداعبها الحنين

كانت هموم أبى تذوب ...بركعتين

كل الذى يبغيه فى الدنيا صلاة فى الحسين ...

أو دعوة لله ان يرضى

لكى يرى جد الحسين

قد كنت مثل أبى أصلى فى المساء

وأظل أقرأ فى كتاب الله التمس الرجاء

أو أقرأ الكتب القديمة

أشواق ليلى أو رياض...أبى العلاء

****

وأتيت يوما للمدينة كالغريب..

ورنين صوت أبى يهز مسامعي

وسط الزحام..

وفى الزحام يهزنى فى مضجعى

ومدينتى الحيرى ضباب فى ضباب

أحشاؤها حبلى بطفل

غير معروف الهوية

أحزانها كرماد أنثى ..

ربما كانت ضحية

أنفاسها كالقيد يعصف بالسجين

طرقاتها سوداء ..كالليل الحزين

أشجارها صفراء والدم فى شوارعها يسيل

كم من دماء الناس ينزف دون جرح ...أو طبيب

لا شىء فيك مدينتى غير الزحام

أحياؤنا سكنوا المقابر

قبل أن ياتى الرحيل

هربوا إلى الموتى أرادو الصمت فى دنيا الكلام

ما أثقل الدنيا وكل الناس تحيا بالكلام

****

درب المدينة صارخ الألوان

فهنا يمين أو يسار قاني

والكل يجلس فوق جسم جريمة

هى نزعة الأخلاق فى الإنسان

أبتاه أيامى هنا تمضى مع الحزن العميق

وأعيش وحدى

قد فقدت القلب والنبض ..الرقيق

درب المدينة يا أبى درب عتيق

تتربع الأحزان فى أرجائه

ويموت فيه الحب ...والأمل الغريق

****

ماذا ستفعل يا أبى عن جئت يوماً...دربنا

أترى ستحيا مثلنا ؟

ستموت يا أبتاه حزنا ..بيننا

وستسمع الأصوات تصرخ ...يا أبى:

ياليتنا ...ياليتنا ..ياليتنا

وغدوت بين الدهر التمس الهروب

أين المفر؟!

والعمر يسرع للغروب

***

أبتاه ....لا تحزن

فقد مضت السنين ولم أصلٍِ فى الحسين

لو كنت يا أبتاه مثلى

لعرفت كيف يضيع منا كل شىء...

بالرغم منا قد نضيع

بالرغم منا قد نضيع

من يمنح الغرباء دفئا فى زمن الصقيع؟

من يجعل الغصن العقيم

يجيء يوماً ..بالربيع؟

من ينقذ الإنسان من هذا القطيع؟!

***

أبتاهٌ..

بالأمس عدت إلى الحسين

صليت فيه الركعتين..

بقيت همومى كما هىَ

صارت همومى فى المدينةِ

لا تذوب ..بركعتين

_____

فاروق جويدة